فجأة وبشكل سريع امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي وأروقة المقاهي العامة بالأحاديث والتعليقات لأكثر من أسبوع حول مشكلة انخفاض مياه نهر دجلة بعد قرار تركيا ملء سد اليسو بالمياه في الشهر الجاري.
يلتفت ركاب حافلة الخال صلاح الصغيرة بنظرة واحدة يميناً أثناء مرورها على جسر السنك وسط العاصمة بغداد للاطمئنان على مستوى المياه في نهر دجلة، “فعلاً مستوى المياه منخفض جداً”.. يقول أحد الركاب، فيجيب آخر “أمر متوقع فهم يريدون تجفيف النهر وقتل الحياة في العراق”.
الخال صلاح أو صلاح الجبوري (47 سنة) اعتاد سماع هذه الحوارات في بداية كل موسم حر مع بدء أشهر فصل الصيف اللاهبة في العراق (حزيران وتموز وآب) لكنه يعتقد هذه المرة أن البغداديين محبطون أكثر من كل مرة سابقة.
قبل 24 ساعة كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد أعلن شروع بلاده بعمليات ملء سد أليسو العملاق على نهر دجلة هناك في أعالي النهر في شرقي تركيا الجارة الشمالية للعراق.
الإعلان كان له وقع الصدمة على العراقيين – رغم أنه كان محدداً مسبقاً – لكونهم يعتقدون أن هذا السد سيكون بمثابة بواب السجن الذي يمنع خروج مياه نهر دجلة إليهم.
أحاديث الناس، مواقع التواصل الاجتماعي، التصريحات والمواقف السياسية ووسائل الإعلام المحلية والدولية كلها كانت منشغلة بجفاف مرتقب لنهر دجلة وكأنه بات أمراً حتمياً.
الاستياء الشعبي في بغداد لم يأتِ فقط من سوء إدارة الدولة العراقية لملف المياه بل جاء أيضاً بسبب إنكار الحكومة لمعرفتها بموعد بدء عمليات إملاء سد أليسو رغم أن الجارة تركيا تلاعبت قليلاً بالموعد من خلال تقديمه إلى بداية شهر حزيران – يونيو بدلاً من نهايته بعد اتفاق مع حكومة بغداد على تأجيل هذا الموعد من بداية شهر آذار – مارس الماضي.
السفير التركي في بغداد فاتح يلدز سارع إلى طمأنة العراقيين وحكومتهم بأن عمليات إملاء سد اليسو أخذت بنظر الاعتبار التأثيرات على حياة العراقيين قبل أن يطل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من على منصة حملته الانتخابية في السابع من حزيران ليعلن تأجيل عمليات إملاء السد إلى نهاية الشهر.
لكن الأزمة لم تنتهِ بعد إذ أنها أُجلت فقط بانتظار خطوات عملية من الحكومة العراقية لإبعاد شبح زوال نهر دجلة وتأكيد أن سد أليسو لن يؤثر على المستلزمات الضرورية للعراقيين كمياه الشرب أو الجوانب الخدمية كالري والزراعة.
لم يكن العراق في الماضي يخشى وقوع أزمة تمس مياهه بل على العكس من ذلك كانت المدن العراقية تتخوف من غضب النهرين في مواسم المطر خلال أشهر الشتاء إذ أن التاريخ سجل فيضانات عديدة ضربت البلاد كان أعنفها عام 1954 حيث هدد بغداد بالغرق كلياً.
إلا أن شروع كلٍّ من تركيا، سورية والعراق بإنشاء السدود في سبعينات القرن الماضي غيّر كثيراً من قواعد اللعبة ليكون الفيضان آخر ضيوف الشتاء وليصبح الجفاف التهديد الأبرز للعراق.
“بعد بناء هذه السدود على نهر الفرات انخفضت إيرادات العراق المائية من (30) مليار متر مكعب إلى (17) ملياراً أي أنها انخفضت بنسبة تفوق 45% من مجموع المياه الواصلة الى العراق “.. يقول ظافر عبد الله مستشار وزارة الموارد المائية العراقية.
ويوضح عبد الله في حديث لـ”نقاش” أن “المعاناة التي واجهها العراق بعد بناء تركيا وسورية للسدود على نهر الفرات في السبعينات ستتكرر اليوم مع بناء تركيا لسد أليسو على نهر دجلة”.
عدم تحديد حصة العراق في نهر دجلة يعني انخفاض المياه الواردة إليه بنسبة عالية رغم تأكيد الحكومة العراقية أن إجراءاتها كفيلة بالاستجابة للاحتياجات الضرورية لمياه الشرب و50% من مياه الخطة الزراعية لموسم الصيف المقبل بما يضمن إرواء (600) الف دونم من المحاصيل الصيفية ومليون دونم من البساتين وهي أقل من مستوى الطموح بكثير.
لم يحصل العراق على حصته المائية المحددة من قبل الأمم المتحدة بصورة عادلة من دول الجوار رغم وجود مفاوضات وحوارات متواصلة معها والسبب يعود برأي مستشار وزارة الموارد المائية إلى الظروف السياسية التي تحيط العراق منذ سنوات طويلة فضلاً عن إهمال تنفيذ البروتوكولات ذات الصلة بين العراق وهذه الدول والتي يتعلق أقدمها باتفاقية لوزان بين تركيا ودول التحالف آنذاك والتي يشير بند منها إلى آليات توزيع المياه بين تركيا وسورية والعراق.
حددت آخر البروتوكولات بين الدول الثلاثة إطلاقات نهر الفرات بمعدل (500) متر مكعب/ثانية تنطلق من تركيا بصفتها دولة المنبع إلى سورية أولاً ومن ثم العراق إذ تتوزع بواقع 42% لسورية و 58% للعراق في حين تحاول حكومتا بغداد ودمشق رفع الرقم إلى (700) متر مكعب.
ورغم عدم تطبيق هذه البروتوكولات بشكل صحيح غير أن العراق يطمح اليوم وعلى أقل تقدير إلى الحصول على بروتوكول مشابه مع تركيا بشأن مياه نهر دجلة.
كما ينطبق الأمر ذاته على واقع العلاقة بين العراق وإيران التي تتحكم ببعض روافد نهر دجلة الواصلة الى الأراضي العراقية حيث لم تلتزم إيران هي الأخرى باتفاقية الجزائر عام 1975 لأسباب تقول حكومتها إنها تتعلق بالوضع المناخي الذي تسبب بأزمة مياه للجارة الشرقية للعراق أيضا بعد ان غيرت من مسار هذه الروافد نحو أراضيها بدلاً من الأراضي العراقية.
لا يتعلق حل المشكلة بإنشاء العراق لسدود جديدة كما تؤكد وزارة الموارد المائية حيث أن 90% من الطاقة الخزنية للسدود العراقية هي غير مستغلة ما يعني أن بإمكان العراق استقبال (130) مليار متر مكعب وخزنها في سدوده في حال توفرت هذه الكميات.
وضعت الدولة العراقية خطة إستراتيجية تقول إنها ستضمن توفير المياه اللازمة لجوانب الحياة المختلفة في العراق حتى العام 2035 تتضمن مشاركة جميع مفاصلها من خلال الموازنة بين الطلب المتزايد على المياه داخلياً وتراجع الإيرادات بسبب الوضع المناخي وسياسات دول الجوار.
لكن هذه الخطة التي ستتضمن 24 إجراءً “عاجلاً وضرورياً” كما وصفها وزير الموارد المائية حسن الجنابي تواجه مشكلة قد لا يمكن العراق من تجاوزها تتمثل بالتمويل إذ أنها بحاجة إلى مبلغ بين (2.5 – 3 ) مليار دولار أميركي سنوياً وهذا الرقم يعتبر توفيره محالاً بالنسبة لقراءات الدولة العراقية لموارد الموازنة وتخصيصاتها.
ومع ذلك تطمئن الحكومة العراقية بأن خطواتها التخصصية الفنية قد تثمر عن استجابة الجارة تركيا وإيران أيضا لمطالب العراق التي توصف بـ”العقلانية” التي لا تتعدى توفير المستلزمات الضرورية جداً كمياه الشرب والاستخدامات البلدية والزراعية فهي برأيها مطالب حقة لا مطالب ترف للعراق وبالتالي فإن الكلام عن جفاف نهر دجلة لا يزال سابقاً لأوانه حتى في ظل ظروف التغيّر المناخي والاحتباس الحراري الذي قد يدفع في هذا الاتجاه.
أضف ردا