العربي الجديد
تموز ٢٠٢٢
تثير تداعيات قضية سد مكحول لغط ونقاش كبير بعد أن قررت الحكومة العراقية إعادة العمل بهذا السد على نهر دجلة،شمال محافظة صلاح الدين في أوائل عام ٢٠٢١. و ازداد الشد والجذب حول هذا القرار ، نتيجة للأصوات المعارضة والتقارير التي أظهرت المشاكل المترتبة على إكمال السد. مؤخراً، يبدو أن وزارة الموارد المائية العراقية تراجعت قليلاً عن تصريحاتها حول البدء بالعمل، وتحولت إلى موقف جديد مفاده انها بصدد دراسة موقع السد ومواصفاته وأثره.
وفي هذه المحاولة أريد مشاركة القارئ الكريم بصورة أوسع حول سؤال مهم يشغل عدد كبير من متابعين ملف المياه ومفاده : كيف يتصرف صانع القرار والمسؤول العراقي في ملف المياه بشكل عام؟وكيفَ تصرف بشكل خاص باتخاذ قرار إعادة العمل في بناء سدمكحول؟
وقبل الشروع، لابد من تنويه مهم، خصوصاً ونحن بصدد الخوض بمراجعة تصرفات صانع القرار، في زمان تكثر فيه المناكفات السياسية و التسقيط والتحزّب. لذلك اطلب من القارئ الكريم التَجَرّد من أي حكم مسبق على أي مسؤول سيرد اسمه هنا. ولنفس السبب أيضا، افترض هنا حُسن النية المسبق لكل صّناع القرار، وانهم إن أصابو أو أخطؤوا، فهم يقصدون خيراً.
ما سيرد هنا مراجعة لعملية صناعة القرار في ملف المياه بشكل عام، وحول سد مكحول بشكل خاص، عسى أن تساهم هذه المحاولة في وقفة حقيقية، وقرار مدروس ، و في تجنب كارثة جديدة تحل بنهر دجلة وبمن ينتفع منه.
١– الدراسة الاستراتيجية لموارد المياه والأراضي في العراق(SWLRI)*
لا يخفى على احد، إن العراق ولسنوات طويلة عانا من ”القرار المرتجل“ حيث لا يتم الإرتكان إلى رؤية مدروسة وطويلة المدى لمشاكله المركبة والمعقدة، وهذا ينطبق بشكل خاص على ملف المياه. لذلك حينما يشار إلى دراسة واستراتيجية لموضوع ما، يجدر بنا التوقف وإيلاء الاهتمام الكاف.
مؤخراً بدا الحديث يتزايد عن استراتيجية خاصة بالمياه وضعتها الدولة العراقية وبالاستعانة بخبراء دوليين. وفي مناسبات عديدة ”تَغَنى“ صانع القرار العراقي وعلى مستويات مختلفة بهذه الاستراتيجية، وكأنها العصا السحرية التي ستحل مشاكل المياه.
وفي غير مرة كان صانع القرار يوحي لنا إن ما مضى من تخبط، كان مرده فقط لوجود نقص لتصور مدروس ومكتوب، يُمّكِنه من فهم مشكلة المياه في العراق، ويهيئ له مفاصل مهمة تعينه على اتخاذ القرار المناسب. لكن هل حقاً إن ما يعوز صانع القرار هو وجود استراتيجية مكتوبة، أم إن الأمر يحتاج لأكثر من ذلك.
بالرغم من إن تاريخ بداية هذه الدراسة الاستراتيجية يفترض أن يكون عام ٢٠١٥، لكن الملاحظ أن التصريح بإطلاقها حدث مؤخرا، وفي اكثر من مناسبة وفي اكثر من وقت، مرة بعد أخرى.
في أوخر العام ٢٠٢٠ أشار السيد مهدي رشيد الحمداني وزير الموارد المائية في مقابلة صحفية إلى أن الوزارة أعدت دراسة استراتيجية للمياه في العراق لغاية عام ٢٠٣٥. المتحدث باسم وزارة الموارد المائية العراقية، السيد علي راضي، صرح في نيسان من عام٢٠٢١ بالتالي: “جرى إقرار الدراسة الاستراتيجية للوزارة (٢٠١٥ – ٢٠٣٥) التي أعدت من قبل شركات أجنبية مختصة وبإشراك الكثير من الجهات القطاعية المختصة والوزارات ذات العلاقة في موضوع المياه”. وفي شهر أب من عام ٢٠٢١، بعد اشهر من التصريح السابق، نشرت وكالة الأنباء العراقية عنوان عريض نصه ” الموارد المائية تطلق خطة استراتيجية تمتد للعام 2035“ ، تقول فيه الوكالة ”أطلقت وزارة الموارد المائية، اليوم الخميس (١٢-٨-٢٠٢١)،استراتيجيتها الخاصة بإيصال ماء الشرب للمدن والقرى والممتدة حتى العام 2035“.
وكرر الإشارة لهذه الاستراتيجية السيد وزير الموارد المائية، الحمداني، في لقاء بُث على قناة العراقية في برنامج العاشرة في نوفمبر ٢٠٢١. وخلال اجتماع مشترك لوزراء الزراعة والمياه العرب عبر الدائرة التلفزيونية ، قال فيه “للعراق دراسة استراتيجية لموارد المياه والتربة أعدت لغاية ٢٠٣٥ وتعتبر خارطة طريق لمواجهة التغيرات المناخية في ضوء شح المياه ونقص الواردات المائية وقلة الساقط المطري”. والإشارات تتكرر ليومنا هذا، وما أوردته هو أمثلة وليس حصر لها.
وليس واضح هنا متى أُقرّت هذه الاستراتيجية، هنالك عدم دقة وتفاوت في موعد الإقرار و الإعلان عنها. وحسب علمي لم يكن هناك مناسبة محددة لتوضيح من قام بهذه الاستراتيجية، ما هي كلفتها، وماهو محتوى هذه الاستراتيجية. وترفض الوزارة مشاركة وثيقة هذه الاستراتيجية مع احد، مختصين كانو أم إعلاميين، وربما هذا هو اهم سبب للتخبط و الغموض.
المتوفر من معلومات يؤكد في الحقيقة أن العمل الأساسي هو تحديث لوثيقة خاصة بالمياه تعود للعام ١٩٨٢، وان العراق حاول تحديث هذه الوثيقة في بداية الألفية الثالثة (تحديداً عام ٢٠٠٤)، ثم عاد وانتجها بمعونة شركات دولية وخبراء عالميين عام ٢٠١٤وبكلفة قد تكون وصلت إلى ٣٣ مليون دولار.
ليس هناك من تصريح رسمي حول كل ذلك لكن السيد الوزير وخلال لقاء حول أزمة المياه بثته قناة أسيا الفضائية في حزيران من عام ٢٠٢١، قال ” في عام ٢٠١٤ اعددنا دراسة مكملة ونمتلك خارطة طريق لغاية ٢٠٣٥”.وحين سال هل أن كُلفة تطبيق هذه الدراسة ٣٣ مليون دولار، أجاب السيد الوزير“ لا طبعاً، ما تشيرين له ربما يمثل كُلفة الدراسة نفسها وليس كُلفة تطبيقها“.
ورغم هذا الغموض، هناك إجماع بين صناع القرار العراقي، وعلى مستويات مختلفة وفي وزارات متعددة، على أهمية هذه الاستراتيجية. وفي مقدمة المجمعين على أهمية هذه الاستراتيجية وإنها هي الوثيقة التي تحكم صناعة القرار، السيد وزير الموارد المائية وكوادره الفنية ومستشاريه.
كذلك فان الدراسة ساهمت بها وزارات أخرى وليس فقط وزارة المواردالمائية. وبطبيعة الحال، نفترض بان موضوع هذه الاستراتيجية وربما محتواها كان قد نُوقش، وربما أُقر في اللجنة الوطنية العليا للمياه، والتي تعقد اجتماعات دورية برئاسة رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي وتضم عدد مهم من الوزارات ذات العلاقة. و الاسم الأصلي لهذه الاستراتيجية هو ” الدراسة الاستراتيجية لموارد المياه والأراضي في العراق(SWLRI)“. ومؤخرا كان هناك اشارات في اكثر من مناسبة ان دفة الأمور ستتجه الآن باتجاه مدروس وان القرار سيكون ”استراتيجيا“ هذه المرة، مقارنة بما خلى من سنين.
والآن هل هذا ما حصل؟ و تُرى ماذا تنص هذه الوثيقة المهمة على موضوع بناء السدود الكبيرة بشكل عام وحول موضوع سد مكحول بشكل خاص. كما أسلفت سابقاً، ترفض الحكومة العراقية و وزارة الموارد بشكل خاص، مشاركة محتوى هذه الاستراتيجية، ووفقاً لمصدر خاص ومختص سالتهُ عن الموضوع، فأن سبب التكتم يعود إلى أمرين:
الأول إن ملف المياه في العراق حساس و طالما اعتُبر من أسرار الدولة، هذا ما اعتاد عليه صانع القرار العراقي منذ عقود والى يومنا هذا. اما السبب الثاني يعود لان صانع القرار العراقي لا يريد ان يكشف اوراقه خصوصا امام بلدان الجوار والتي يجري معاها حوار مستمر. وبدوري أضيف لكم سبب ثالثاً، هو إن صانع القرار، بشكل عام، لا يلتزم بمبدأ الشفافية وان تغنى به أو أشار له. وبدلاً من أن يتم تقديم هذه الخطة الاستراتيجية، أو على الأقل خطوطها العريضة والتوجهات التي تحددها، إلى المختص والجمهور، ترك الأمر لمخيلة المواطن، ولهمة الباحث!
وبالرغم من التكتم الشديد، تسربت وفي اكثر من مناسبة نسخ من هذه الدراسة. وحسب ما تسرب، فان الوثيقة الأساسية تصل إلى ١٣٥ صفحة مع قائمة طويلة من المرفقات. وتحوي الوثيقة جداول ومخططات ذات أهمية كبيرة. وصاحَبَ الوثيقة بعض الدراسات الفرعية، هي الأخرى على قدرٍِ كبير من الأهمية.
أحدها وثيقة موجهة للبنك الدولي تحت عنوان ”العراق: تخطيط مواردالمياه وتحليل الاستثمارات : كيف يمكن لإعادة التخصيص المحلي أن تساعد في تحقيق أهداف إدارة الموارد المائية الوطنية“. وهي وثيقة مكونة من قسمين ألأول من ٢٧ صفحةٍ تحوي فُرص ممكنة، وتحديات تواجه العراق. والقسم الثاني مخصص لدراسة الوضع في كل محافظة من المحافظات العراقية، ويقع في ٨٣ صفحة، ويضم مخططات وجداول غاية في الأهمية.
وخلال مؤتمر بغداد الدولي الأول للمياه، عقد للفترة من ١٣-١٤ من آذار ٢٠٢١، ذُكر اسم الاستراتيجية الصريح وتم استعراض فقرات من وثيقة تخطيط الموارد التي اشرت لها أعلاه. وكذلك تم الإشارة لضرورة العمل على تحديث هذه الاستراتيجية.
وحينما بدا الحديث حول إعادة العمل في سد مكحول، عام ٢٠٢١ ،من قبل وزارة الموارد، وبعلم من وزارة التخطيط، و وزارة المالية التي خصصت الأموال اللازمة ( أو جزء منها)، تبادر إلى ذهني سؤال مهم: تُرى هل يعلم صانع القرار العراقي بأن الاستراتيجية(SWLRI)، التي طالما تغنى بها وصُرف عليها الملايين، تنص وبما لايقبل الشك بأن العراق ليس بحاجة إلى مزيد من السدود الكبيرة وان ما لديه من خزانات هو كافٍ، وان الأولى تحويل الأموال إلى مشاريع بديلة! وبأن الوثيقة تحوي اشارات مهمة حول سد مكحول لا يمكن تجاهلها ببساطة.
و سنتناول و بشئ من التفصيل في القاسم الثاني من هذا الموضوع، معلومات حول تطورات الموقف من سد مكحول وحول موقف الاستراتيجية(SWLRI) منه.
يتبع
=======================
كتب في تموز ٢٠٢٢
للتواصل مع الكاتب: [email protected]
أضف ردا