العربي الجديد
معرفة مكامن القوة والمنافع المتوخاة من إكمال سد مكحول العراقي أمر صعب، مع أن المعلومات المتوافرة تركز كلها على أهمية المشروع، وكبره، إذ يوصف بأنه الأكبر على الإطلاق بعد عام 2003، لكن في الوقت نفسه، الحديث يجري حول عموميات وتكرار لما عرف سابقاً عن هذا السد.
وتشير المعلومات المتوافرة الى أن مؤسسة “تكنو بروم” السوفياتية (وقتها)، هي من قدمت لهيئة التخطيط العراقية (حالياً وزارة التخطيط) دراسة عن موقع السد وطاقته الخزنية، ضمن عمل شمل أيضاً سدوداً أخرى مثل سد الفتحة. وفي تأكيد من عون ذياب، يقول إن أعمال أسس السد أنجز منها 15%، لكن احتلال العراق للكويت عام 1990 أوقف العمل بالمشروع. ويشير ذياب، ويبدو أنه مؤيد لإكمال السد، إلى أن شركات الوزارة ستتولى عملية إكمال الأعمال الترابية، أما محطة التوليد الكهربائية والأعمال الأخرى فستحتاج إلى شركات دولية متخصصة.
والأدهى من كل ما سبق، أن وزارة الموارد العراقية في حقيقة الأمر، لم تدرج السد ضمن خططها منذ عام 2003، وهذا ما أكده الوزير السابق الدكتور حسن الجنابي في مقابلة تلفزيونية، وذكر في حديثه أن كل من الوزراء السابقين، الدكتور لطيف رشيد، والدكتور مهند السعدي، ألغيا السد من قائمة المشاريع، وكذلك فعل الوزير الذي جاء بعدهم محسن الشمري، وصولاً للجنابي. وسبب عدم إدراج هذا السد الكبير أو سدود جديدة، يعود بالأساس إلى أن العراق لديه خزانات تعمل في أقل من طاقتها التصميمية، وليس بحاجة لخزانات جديدة. في منتصف عام 2018، أوضح رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي هذا أيضاً، وقال إن “البلد لا يحتاج إلى بناء سدود، لأن السدود التي لدينا لم تصل إلى مستوى الامتلاء أصلاً”.
والرجل محق، والإشارة هنا إلى السدود الكبيرة التي تشيد لغرض خلق خزانات للمياه، وهذه هي الحال مع سد مكحول. وهو عينه ما أقرته استراتيجية (SWLRI). يخاطب العبادي الإعلام والجمهور موضحاً: “لو كان لدينا فائض في المياه، لحقّ لكم وقتها الحديث عن الحاجة لبناء سدود جديدة”.
وتشير التقديرات إلى أن العراق خسر 30 في المئة من تدفق المياه في نهري دجلة والفرات خلال العقود السابقة، وأن المتوقع هو ازدياد هذه الخسارة لتصل إلى 60 في المئة. واستمرار انخفاض الواردات هو حقيقة لا يجدر بصانع القرار أن يتجاهلها.
وفي تموز (يوليو) من عام 2021، أعلنت منظمة “ليوان للثقافة والتنمية”، وهي منظمة غير حكومية عراقية، أنها بالشراكة مع “المنظمة الدولية للهجرة” (IOM) ستقوم بتوثيق وتحليل التأثير البشري المتوقع لبناء السد في المجتمعات في محافظتي كركوك وصلاح الدين، بالإضافة إلى تأثيره في المشهد الثقافي والجغرافي. ولاحقاً، خلصت الدراسة هذه إلى أن المجتمعات المحلية ستتأثر تأثراً كبيراً في حال إكمال بناء السد.
وفي حزيران (يونيو) من عام 2022 أصدرت منظمة “إنقاذ نهر دجلة” ومقرها أمستردام – هولندا، بالشراكة مع منظمة “حماة دجلة” العراقية، تقريراً مشتركاً عن أثر سد مكحول عنوانه “سد مكحول وأثره البيئي والثقافي والاجتماعي”. استعرض هذا التقرير الذي تم تداوله تداولاً واسعاً في صفحات التواصل الاجتماعي، أهم الآثار البيئية والثقافية والاجتماعية لهذا السد. ويستنتج التقرير أن سد مكحول “سيضع النظم البيئية والبيئة المحيطة به، في حالة من عدم التوازن، من خلال إغراق مناطق أعالي النهر وتقليل تدفق المياه في اتجاه مجرى النهر، سيؤثر ذلك سلباً في جودة المياه. كما أنه سيقلل من التنوع البيولوجي على طول مجرى نهر دجلة وداخل الأهوار في جنوب العراق”.
وفي الحقيقة، إن احتجاز مزيد من مياه نهر دجلة في أعالي النهر سينتج منه حتماً ازدياد كارثة العطش والجفاف في مناطق أسفل النهر، جنوب العراق وأهواره.
علاوة على الأثر البيئي الخطير، يهدد السد بخطر ثقافي جسيم يتمثل بإتلاف أجزاء من موقع التراث العالمي لمدينة آشور، ويضع مدينة “كار تيكولتي نينورتا” بأكملها تحت الماء، كما أنه سيقضي على أكثر من 250 موقعاً أثرياً. كما أن سد مكحول سيؤدي إلى فقدان سبل العيش وتشريد أكثر من 100000 شخص من 40 مجتمعاً محلياً في محافظتي صلاح الدين وكركوك، عاد معظمهم أخيراً لإعادة بناء حياتهم، بعد سنوات من النزوح بسبب احتلال “داعش” مناطقهم.
والتقرير يستنتج أنه يمكن اعتبار التكلفة المستقبلية لسد مكحول أعلى بكثير من الفوائد المحتملة للسد على الأرض. ذلك لأن تكلفة إنشائه، بالإضافة إلى الكلف المباشرة للعمل، يجب أن تتضمن حساب تعويضات مجزية وبناء وحدات سكنية، لمن سيتم تهجريهم، كما يجب التفكير بتكلفة عمليات صيانة مستمرة على السد.
الحكومة العراقية تقرّ بحقيقة أن بناء هذا السد يواجه مشكلة بنيوية تتعلق بطبيعة جيولوجيا الأرض التي يقام عليها والمشابهة لتلك التي بني عليها سد الموصل. وهو ما يعني أن العراق بصدد بناء سد فاشل يتطلب صيانة دورية ومكلفة. وهذا يذكرنا بتكلفة صيانة سد الموصل وبالحقيقة المرة بأن عمليات الصيانة هذه يجب أن تستمر في المستقبل. ولإعطاء فكرة أكثر، فإن العراق في عام 2016 كلف شركة “تريفي” الإيطالية عملية صيانة سد الموصل بتكلفة وصلت إلى ملياري دولار. وبالعودة إلى ذلك الوقت، تسبب النقاش حول احتمال انهيار السد، بهلع وخلاف سياسي، وتدخل دولي. ولحسم الجدل، تدخل حينها رجل الدين الواسع النفوذ مقتدى الصدر، ليسحب ملف الصيانة من بين يدي وزير الموارد المائية، والذي كان محسوباً بشكل أو بآخر على التيار الصدري، ليحيله إلى مجلس الوزراء.
عمليات صيانة من هذا النوع، غير مستدامة وتسبب حرجاً سياسياً كبيراً وتكلفة مالية أكبر!
وبعد حملات المعارضة، يظهر تحول تكتيكي في موقف صانع القرار، وعلى سبيل المثال، نشر إعلام وزارة الموارد المائية في الأول من تموز 2022 خبراً عن ترؤس وزير الموارد المائية اجتماعاً خاصاً عن سد مكحول مع “اللجنة التوجيهية الاستشارية للسد”. ولا تتوافر معلومات مكتوبة عمّن هم أعضاء هذه اللجنة وما هي مهامها. ويسترسل الخبر موضحاً أن اللجنة قدمت شرحاً تفصيلياً عمّا تمخضت عنه زيارتها “ائتلاف الشركة الصربية البريطانية” والمتعاقد معها، وفقاً لهذا الخبر، لتقديم التصاميم التخطيطية التفصيلية والمسؤولة عن إجراء التحريات. ثم يشير إلى أن الشركة الاستشارية، ستقوم بداية شهر تموز الجاري بالتحريات الجيولوجية والفيزياوية والزلزالية والنموذج الفيزيائي وتقديم الحلول والمقترحات للمحافظة على الآثار، ومنها قلعة آشور.
وليس هنالك ذكر لاسم هذه الشركة ولا للعقد الذي يحكم عملها مع الوزارة، تكلفته، طبيعته ومدته وغيرها من المعلومات المهمة. ثم إن الخبر يتحدث عن شركة استشارية وتحريات، بينما أشارت الوزارة نفسها وبلسان أكثر من مسؤول إلى أنها باشرت العمل الفعلي على السد قبل أكثر من عام، تحديداً في أوائل عام 2021، وأن الحديث وقتها عن دراسات وإمكانات وطنية للإشراف والتصميم والتنفيذ.
نعم، من الصعب التعرف إلى مصادر قوة لهذا المشروع، لكن الاستنتاج الأكثر قرباً للحقيقة هو أن صناع القرار العراقي اليوم، يبحثون عن طوق نجاة، من مشكلة عويصة ومستعصية. فهم والمفاوض العراقي يواجهون صداً وتجاهلاً من دول الجوار، خصوصاً تركيا وإيران اللتين تستمران بخططهما لبناء السدود ومشاريع تحويل المياه التي يدفع ثمنها العراق كونه دولة مصب. هم بحاجة للتهرب من هذا الحرج وإيجاد “حل”، وإن كان هذا الحل غير مدروس ومرتجلاً.
وحيث تتعاظم مشكلات التغير المناخي، مع قلة تساقط الأمطار والتصحر، بسرعة في العراق والمنطقة عموماً، وبدلاً من اختيار حلول مدروسة وصعبة، يحاكي صانع القرار اليوم الرأي الشائع بين جمهور واسع، بل وحتى بين بعض الأكاديميين والمختصين، بأن بناء سدود كبيرة هو الحل. وهو الأمر الذي اختلف معه جملة وتفصيلاً ولكل ما سبق.
استمرار بناء السدود الكبيرة ظاهرة تشمل المنطقة والعراق أيضاً. وتخطط الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان – العراق، إلى بناء المزيد من السدود الكبيرة في الأعوام المقبلة. وبدلاً من أن يؤسس صانع القرار العراقي موقفاً في معارضة بناء السدود في دول المنبع على أساس موضوعي، قاعدته هي رفض المزيد من السدود الكبيرة المدمرة لإيكولوجيا ما بين النهرين، بدلاً من ذلك، فضّل الهروب إلى الأمام.
نعم، في الحالة العراقية، بناء سدود كبيرة هو عملية هروب إلى الأمام، وهدر للأموال، وهذا إن اختلف البعض حوله، فلن يكون محط الخلاف هو سد مكحول!
هذه دعوة الى وقف بناء السد وتحويل الموارد إلى ما أُدرج من أولويات في الاستراتيجية (SWLRI) وإلى أولويات حقيقية تتعلق بحماية الأنهار من مصادر التلوث ومن التجاوزات المتعددة. كذلك إنشاء بنى تحتية لعمليات حصاد الأمطار وتدوير المياه المستخدمة ومساعدة الفلاح العراقي على الاستجابة لمتطلبات الواقع الجديد. بلاد الرافدين لم تعد مكاناً للزراعة بالسيح (طريقة الري التي درج عليها العراقي منذ أجداده السومريين)، آن الأوان لتبني البديل.
الأمر عاجل ومستعجل، وبحاجة لقرار شجاع، يتراجع خطوة، ليوقف السد ومعه الهدر، وليمضي خطوات إلى الأمام.
أضف ردا