حسن الجنابي|24 أبريل 2023
مركز الإمارات للسياسات
يواجه العراق تحدياً أساسياً يتعلق بالانحسار الكبير للمياه في أنهاره الرئيسة، في الغالب نتيجة للإدارة المائية الخاطئة، وسياسات دول الجوار المائية، وبشكل خاص تركيا وإيران. وتزداد هذه المشكلة خطورة مع تأثيرات التغير المناخي، والتي تتفاعل مع النتائج المضرة للإدارة البشرية المتعسفة للموارد المائية. وبالنتيجة، فإنّ مشكلة المياه تقود بدورها إلى مشكلات اجتماعية واقتصادية وسياسية، وتتحول إلى مشكلة جيوسياسية، ومصدراً جديداً لعدم الاستقرار والصراعات في العراق والمنطقة.
تتناول هذه الورقة الجوانب المختلفة لمشكلة العراق المائية، بالتركيز أساساً على فشل السياسة المائية في العراق، وتأثيرات السياسات التي تتبعها دول الجوار، وعامل التغير المناخي.
في جذور المشكلة: انتقال العراق من الاسترخاء إلى الإجهاد المائي
برز التحدي المائي في العراق بصورة واضحة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي متزامناً حينها مع إكمال سد كيبان التركي على نهر الفرات وملئه، بطاقة تخزينية تبلغ 30 مليار متر مكعب، ومع إكمال سد الطبقة السوري على نهر الفرات أيضاً وملئه، بسعة تخزينية تبلغ 12 مليار متر مكعب. اقترب نهر الفرات حينها من الجفاف، إذ إن معدل تصريفه السنوي إلى العراق عبر التاريخ، وإلى ذلك الحين، كان يبلغ 30 مليار متر مكعب، وقد أُنشِئت عليه سعة تخزينية بلغت 42 مليار متر مكعب، وجرى ملء السدين في نفس السنة، الأمر الذي تسبَّب في هبوط مفاجئ لإيرادات العراق المائية إلى 9 مليار متر مكعب لسنتين متتاليتين.
وآذَنَ الملءُ المفاجئ للسدين التركي والسوري، دون تنسيق مع الدولة العراقية، بدخول العراق مرحلة جديدة تُنذر بفقدان “السيادة” المائية، إن كان ثمة سيادة على الأنهار العابرة للحدود. فحتى ذلك التاريخ لم يكن لدى العراق سدود أو أي طاقة تخزينية على الفرات سوى بحيرة الحبانية الصغيرة نسبياً، بطاقة تخزين قصوى تبلغ حوالي 3 مليار متر مكعب، وكانت عبارة عن منخفض طبيعي، أصبح جزءاً من منظومة “سدة الرمادي” التي افتتحها ملك العراق الراحل فيصل الثاني في منتصف خمسينيات القرن الماضي. أمّا سد حديثة على الفرات فأُنشئ في منتصف الثمانينيات، أي بعد مضي عقدٍ على إنشاء سدَّي كيبان والطبقة في تركيا وسورية.
ومن المعروف أن البلدان الأربعة التي تُفرِّقها السياسة والمصالح (العراق وسورية وتركيا وإيران) تشترك بمياه الرافدين، دجلة والفرات، وروافدهما بدرجات متفاوتة. وعلى خلفية التوترات الثنائية والثلاثية والرباعية الخطرة، وتعقيدات المنطقة وما جاورها، فإنّ الموقف من الموارد المائية المشتركة كان يتخذ غالباً منحىً جيوسياسياً، على الأقل بالنسبة لإيران وتركيا. أما في العراق فلم يحظ بأولوية كبيرة لسببين: الأول، أنّ الموقف الأمني-العسكري والاحتفاظ بالسلطة كانا أهم من أي تحديات آخرى تواجه الحكومة العراقية، بما فيها التحدي المائي. والسبب الثاني، حالة الإطمئنان السائدة لدى الحكومة العراقية، والمجتمع العراقي عموماً، بخصوص مياه الرافدين التي لم تكن وقتذاك تمثّل مصدر قلقٍ من قبل، بل على العكس تماماً، إذ جرى حينها تداول فكرة تزويد الكويت والأردن بالمياه، من منطلق الشعور بوفرة المياه في العراق، ووجود النية لدى أعلى المستويات الحكومية في استخدامها لكسب النفوذ في الجوار العربي، من طريق خلق شروط تجعل بعض دول الجوار العربية معتمدة على العراق مائياً. وكانت هذه مقاربة غاية في الخطورة وعاجزة عن إدراك أن العراق نفسه كان يفقد تدريجياً سيطرته وسيادته على جزء كبير من مياه الرافدين.
وبالنتيجة، فإن ما حصل في عامي 1975-1976 من نقص حاد في إيرادات نهر الفرات، بسبب إنشاء سدّين فقط، كانا ضمن خطط لإنشاء سدود أخرى، مثَّل انعطافة كبيرة أقلقت حالة “الاسترخاء” المائي للعراق، ودشَّنت مرحلة خطرة. فقد تضاعفت الضغوط “التنافسية” على الموارد المائية، وخرج العراق من سباق المنافسة باعتباره الخاسر الأكبر من كل ما حصل في الأربعين عاماً الأخيرة، وهو يعاني حالياً من مضاعفات التحول من حالات الوفرة المائية إلى الإجهاد المائي.
السياق السياسي لمشكلة المياه
في ضوء ما حصل لنهر الفرات في منتصف السبعينات، ونتيجة عوامل أخرى نابعة من أيديولوجية حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم وقتذاك وطموحاته الداخلية والخارجية، اتخذت السلطات العراقية عدة قرارات وإجراءات ضمن اتجاهين أساسيين: سياسي، عكسته عدة تحركات على المستويين الداخلي والإقليمي؛ وفني واقتصادي، تمثَّل في إنجاز مشاريع البنى التحتية في القطاعات الاقتصادية المتنوعة، وبالخصوص في القطاع المائي.
تمثّل الشق السياسي للإجراءات الحكومية على المستوى الإقليمي بتوقيع اتفاقية الجزائر لعام 1975 مع إيران. وكانت هذه الاتفاقية، كما تبيَّن لاحقاً، من أكثر التطورات خطراً على مستقبل العراق والمنطقة، لأن مشكلة المياه، وبالذات خط الحدود النهرية بين العراق وايران، كانت الزناد الذي أشعل حرب الثمانينيات بين البلدين. فقد تضمنت اتفاقية 1975 ترتيبات بشأن “الأنهار الحدودية” إلى جانب “الحدود النهرية”؛ وقُسمّت الأنهار الحدودية ثلاثة فئات تضمَّنت ما اتفق على تسميته بـ “الأنهار المتجاورة”، أي تلك التي تتبع خط الحدود بين الدولتين، و”الأنهُر المتتابعة”، وهي الأنهار التي تقطع حدود البلدين. وجرى الاتفاق حول قسمة المياه في أنهار الفئة-أ التي ذكرت بالاسم وكانت القسمة مناصفة بين الطرفين، وضُمِّنَت أسماء أنهار أخرى في الفئة-ب، بحيث تكون قسمة المياه فيها وفق الاتفاقية العثمانية-الإيرانية لعام 1914، أما الاتفاق على الفئة الثالثة غير المذكورة بالاسم فيكون وفق أحكام ومبادئ الاتفاقية نفسها، والقائمة على أسس حُسن الجوار والاحترام المتبادل.
وهكذا، اتفق الطرفان على تسمية “الحدود النهرية” بينهما، أي تعيين مسار جديد لخط الحدود في شط العرب. فقد كان خط الحدود في منطقة شط العرب منذ القرن الثامن عشر، وبالضبط منذ اتفاقية قصر شيرين عام 1739 بين الإمبراطورية العثمانية والفارسية، وحتى توقيع اتفاقية الجزائر في 1975 هو الضفة الشرقية للشط، أي نقطة التقاء المياه باليابسة. بمعنى آخر كان شط العرب بضفتيه الشرقية والغربية عراقياً حتى مصبه في الخليج. ولكن الاتفاقية التي وقعها صدام حسين في الجزائر مع شاه ايران محمد رضا بهلوي، جعلت مسار خط الحدود بين البلدين هو المجرى العميق لشط العرب، وبذلك حصلت إيران على نصف شط العرب بعد قرون من النزاع. وكان هذا “الاتفاق” الذي أقدمت عليه الحكومة العراقية في لحظة ضعف هو السبب الرئيس لاندلاع حرب 1980-1988 بين العراق وإيران، بعد أن شعرت حكومة صدام حسين بالقوة إزاء إيران التي أنهكتها أحداث الثورة التي أدت إلى إسقاط الشاه وتأسيس الجمهورية الإسلامية في ايران.
ويمكن وصف الحرب العراقية-الإيرانية بأنها حرب لا رابح فيها؛ إذ لم يُحسَم خلال سنواتها الثمان أيٌّ من الملفات العالقة بين البلدين، بما فيها الملف المائي، وما تضمنته اتفاقية 1975 بشأن الحدود النهرية. ولا يزال ملف المياه بين البلدين مقلقاً وغامضاً بعد أن أكملت إيران سيطرتها على الروافد والأنهار المشتركة جميعها، وحبست مياه النهرين الكبيرين، الكرخة والكارون، وحجبتها من الوصول إلى مصباتها التقليدية في جنوب العراق. وكان لهذه الإجراءات آثارٌ مدمرة على الأهوار العراقية، وهي المساحات المغمورة بالمياه منذ آلاف السنين، والتي كانت موئل الحضارة السومرية.
السدود التركية وأزمة المياه في العراق
على مستوى العلاقة المائية مع تركيا، فإن أمرها كان يبدو أكثر وضوحاً قياساً بالعلاقة المائية العراقية الإيرانية، لكنها ليست أقل ضرراً. فتركيا تنفّذ منذ أربعة عقود مشروعاً كبيراً معلناً بعنوان “مشروع جنوب شرق الأناضول”، يتضمن إنشاء سدود كبيرة لحجز المياه واستخدامها في الزراعة، وفي إنتاج الطاقة الكهرومائية. وقد أنشأت تركيا منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم سلسلة منها كان آخرها سد اليسو الكبير على نهر دجلة قرب الحدود العراقية.
وكان العراق قد وقَّع مع تركيا في العام 1946 اتفاقية للصداقة وحُسْن الجوار تضمنت ملحقاً خاصاً حول المياه. وكان الموقف من مياه الرافدين متقدماً وواقعياً ونابعاً بالفعل من حسن الجوار والصداقة، والرغبة في استمرار السلم والتنمية. فقد اتفق الطرفان على أن تُبنى السدود والمنشآت المرتبطة بالمياه، مثل محطات القياس الهيدرولوجية، داخل الأراضي التركية لغرض قياس مناسيب المياه وتدفقاتها أو تخزينها، وبحيث يتحمل الطرف العراقي تكاليف إنشاء تلك المواقع داخل الأراضي التركية. حينها، لم يكن لدى تركيا أي منشأة في أعالي الرافدين نظراً لانتفاء الحاجة إليها حتى تاريخه، وكان إنشاء السدود مطلباً عراقياً لتخفيف الأضرار المتوقعة نتيجة الفيضانات المستمرة للنهرين سنوياً. وكان على العراق، أيضاً، إرسال فرقٍ فنية إلى تركيا لتحديد مواقع السدود ومحطات القياس في الأراضي التركية، مما يشير إلى تفوق القدرات البشرية العراقية، فنياً وتقنياً.
لكن من المؤسف أن اتفاقية 1946 بين العراق وتركيا أُهملت رغم أنها اتفاقية نافذة نظراً لعدم وجود إطار زمني لنفاذيتها، على عكس اتفاقية 1926 بينهما التي حددت المدة الزمنية لإنفاذها بعشرة أعوام. وكان إهمال العراق لتلك الاتفاقية التي تعمل لصالحه، في جانبها المائي الذي تُعنى به هذه الورقة، موقفاً غير مسؤول، أدى فيما بعد إلى خسارات كبرى في إيرادات العراق المائية، ومُضي تركيا منفردة إنشاء مشاريع عملاقة على نهري دجلة والفرات، دون التنسيق مع العراق الذي بقي متفرجاً ومتلقياً سلبياً باعتباره دولة مصب.
استمرت تركيا في إنشاء السدود الكبيرة والصغيرة، منها خمسة سدود على نهر الفرات فقط. ومن اللافت أن السعة التخزينية للسدود الخمسة (كيبان، وكرة كايا، وأتاتورك، وكركاميش، وبيريجيك) بلغت أكثر من 90 مليار متر مكعب، أي ثلاثة أضعاف المعدل السنوي لإيرادات الفرات المعتادة. فإذا أضيف لها حوالي 14 مليار متر مكعب سعة تخزينية في سورية، وحوالي 8 مليارات متر مكعب في سد حديثة العراقي يصبح أمر السيطرة الجائرة على النهر، الذي يبلغ معدل إيراده السنوي 30 مليار متر مكعب، واضحاً.
خسر العراق نتيجة تلك المشاريع المُبالَغ في أحجامها 50% من إيراداته السنوية من الفرات خلال الأربعين عاماً الأخيرة، ومن المتوقع أن يكون الوضع أسوأ بمرور الزمن، إذ سيخسر حوالي الثلثين على أساس الاتفاق المؤقت (الذي أصبح شبه دائم) القاضي بإطلاق تركيا ما معدله 500 متر مكعب في الثانية على الحدود السورية، يتقاسمها العراق وسورية بنسبة 58% للعراق، و42% إلى سورية. لذلك فإن حصة العراق تكون وفق تلك المعادلة 9 مليارات متر مكعب سنوياً، فيما تبلغ حصة تركيا 15 مليار متر مكعب، وسيكون لسورية 6 مليارات متر مكعب.
المشاريع الحكومية العراقية
استجابة للتحدي المائي المتزايد، شرعت الحكومة العراقية في إقامة عدد من المشاريع الإروائية الكبرى على نهري دجلة والفرات، منها على سبيل المثال مشروع الثرثار الذي يربط نهر دجلة بنهر الفرات، والهدف من هذا المشروع تعزيز تصاريف نهر الفرات في أوقات الحاجة من بحيرة الثرثار التي تتغذى من مياه نهر دجلة الذي لم يكن يخضع لسيطرة دول الجوار. فقد كان معدل إيرادات نهر دجلة السنوية في مدينة بغداد يبلغ بحدود 50 مليار متر مكعب، أي أكبر بكثير من معدل إيرادات الفرات السنوية البالغة حوالي 30 مليار متر مكعب على الحدود السورية العراقية، ومن الواضح أن الربط الهيدروليكي بين النهرين عبر سد سامراء الواقع على نهر دجلة إلى الشمال من بغداد، يمنح النظام المائي العراقي مرونة عالية، ويمثل استجابة ضرورية للتغيرات المباغتة لحالة نهر الفرات بعد إنشاء السدين التركي والسوري، كيبان والطبقة، فضلاً عن تأمين حماية العاصمة بغداد من آثار الفيضانات المتوقعة، كما حصل في الأعوام 1954 و 1969 وآخرها في عام 1988 الذي كان من أكبر الفيضانات التي شهدها العراق.
شرعت الحكومة العراقية أيضاً في تنفيذ مشاريع استصلاح كبرى للأراضي، خاصة في شمال بغداد وغربها، وفي وسط العراق، في محاولة لتأمين سوق الغذاء وتنشيط القطاع الزراعي وفق الرؤية الأيديولوجية لحزب البعث الحاكم، إثر تلكؤ القطاع الزراعي وتراجع إنتاجيته مقارنة بالفترات التي سبقت إعلان “قانون الإصلاح الزراعي” في العهد الجمهوري. كان هدف الحكومة العراقية على مستوى الشعارات تحقيق التقدم وتنمية القطاع الزراعي، والوصول إلى الاكتفاء الذاتي من الإنتاج، والقضاء على الإقطاع، وما شابه ذلك. إلا أن مفعول الإجراءات الحكومية كان في الكثير من الأحيان عكسياً، واعتمدت كلياً على العائدات النفطية التي تحوّل إثرها الريف العراقي الذي كان منتجاً، إلى قطاع هامشي يتكئ على الدعم الحكومي، بعد أن كان في العهود التي سبقت ذلك، وبالأخص العهد الملكي، ينتج ما يزيد على حاجة السوق المحلي من المحاصيل.
وتُوفِّر التكنولوجيا والعلوم والهندسة بطبيعة الحال سُبُلاً ناجعة للتعاطي مع مشكلات نقص المياه وإدارتها من طريق إنشاء مختلف المشاريع الإروائية وغيرها، ولكنها تعجز عن أن تكون الحل الوحيد في بلد مَصَب مثل العراق يقع في الجزء الأسفل من الأحواض النهرية، حيث تتكون أكثر من 70% من مياهه خارج حدوده الوطنية. فهناك إجراءات وسياسات لا تقل فعالية وكفاءة في الاستجابة للمتطلبات الضاغطة الجديدة، مثل تعزيز القدرات للصمود خلال فترات الإجهاد المائي، وتطوير البدائل المستدامة، والحوكمة الرشيدة، واتباع المقاربة الذكية للموارد المتاحة، فضلاً عن التوصل إلى اتفاقات منصفة مع الجيران مبنية على مبادئ القانون الدولي، وابتكار سياسات تكيُّف مناسبة في ظل أوضاع تزداد تنافسية وصعوبة. ومن دون ذلك تكون المقاربة ناقصة ووحيدة الجانب، ولا تُقدِّم حلولاً.
مأساة الأهوار
عاش العراق في العقود الخمسة الأخيرة أحداثاً جسيمةً، تعثَّرت خلالها التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وساد في معظمها عدم الاستقرار السياسي، ونشبت حروب لا مُبرر لها، وصُرِفت أموال طائلة في غير محلها ولا أوانها. ووقع القطاع المائي، بدورهِ، ضحية للحروب المتوالية، ولاختلال الأولويات وتسييسها، ووصل الأمر مستوىً أصبح فيه تجفيف الأهوار العراقية هدفاً حكومياً في عقد التسعينيات، وهو ما قضى على واحدة من أهم الظواهر الهيدرولوجية في العراق ومنطقة غرب آسيا. فقد خسر العراق إثر ذلك خزيناً مائياً هائلاً في المنخفضات الجنوبية كان يزيد على 20 مليار متر مكعب، وتسبَّب في تغيير مدمّر للنظام المائي، من حيث الحوكمة والتشغيل، وحصل تبدُّل قسري في الأنماط الزراعية واستخدامات الأرض. قبل ذلك، وعبر آلاف السنين، كان الخزين المائي في الأهوار يُسهِم في الحفاظ على توازن بيئي عريق في القدم، يحتضن بقايا الحضارة السومرية، ويحفظ عذوبة مياه شط العرب، ويؤثر إيجاباً في الظرف المناخي السائد، ويمثل موئلاً ومحطة رئيسة للطيور المهاجرة، ويُقدِّم خدمات لا حصر لها للبيئة وللمجتمع في العراق وخارجه.
لذلك ليس من الخطأ الإشارة إلى أن الجهد الحكومي العراقي منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين حتى عام 2003 كان “متناغماً” مع إجراءات ومشاريع السيطرة التي جرت حينها في دول الجوار، والتي قلّلت بالنتيجة من إيرادات العراق المائية، وأسهمت مباشرة في تجفيف 90% من الأهوار العراقية التي كانت مساحتها تزيد على مساحة دولة مثل لبنان. فالقضاء على الأهوار العراقية يحدث فقط عند تقليل، أو قطع، الإيرادات المائية عنها، لذلك فإن الإجراءات التي قامت بها دول الجوار من طريق السدود المنشأة حديثاً، كانت تؤدي نفس الغرض وتُحاكي رغبة الحكومة العراقية في منع وصول أي إيرادات مائية إلى مناطق الأهوار، لأسباب سياسية وأمنية صرف.
نتيجة لذلك حصل اختلال في المعادلة العضوية بين الغذاء والمياه، وهو اختلال لا يزال مستمراً إلى اليوم. فالزراعة في العراق إروائية، أي أنَّها تعتمد كلياً على استخدام تقنيات الري ووسائل السيطرة على جريان المياه، والتحكم بتوزيعاتها وغير ذلك. أما الأهوار العراقية التي جُفِّفت بقرار سياسي، وباستخدام جهد الدولة الهائل، فكانت تُغطي أكثر من نصف حاجة السوق المحلي من الثروة السمكية والمنتجات الحيوانية الأخرى. جرى الاختلال بين المياه والغذاء تحت ضغط توجهات أيديولوجية، أنتج التعسُّف في تطبيقها واقعاً زراعياً هجيناً ومشوهاً مقابل خدمات الري المستقرة منذ القدم بسبب الوفرة المائية المعتادة. وانتهى الأمر إلى أن القطاع الذي يستهلك 80% من موارد المياه العراقية، أي الزراعة، صار يُنتِج أقل من 30% من حاجة السوق المحلي للغذاء، واستمر النفط في تغطية تكاليف استيراد الـ 70% المتبقية من حاجة السوق. ونتيجة لتلك السياسات أمسى القطاع الزراعي، الذي يعمل فيه ثُلث عدد السكان، عاجزاً عن الاستمرار من دون الدعم الذي تقدمه الحكومة، وهو منذ عقود قطاع غير مربح مادياً رغم أهميته لاستقرار الدولة والمجتمع.
كما أن هناك مشكلة أكثر تعقيداً، تتمثَّل في قيام العراق، منذ عقدين على الأقل، باستيراد مياهه من دول الجوار، أي أن المياه التي كانت تاريخياً تجري إلى العراق لينتج منها كفايته من الغذاء، أمست تُحجَز في بلدان الجوار وتستخدم في انتاج محاصيل وثروة حيوانية تُصدَّر منتجاتها إلى العراق لسد النقص الحاصل في السوق نتيجة لانحسار المياه. وهذه قضية غاية في الخطورة، ولم تحظ حتى الآن بانتباه الحكومة والمجتمع رغم التحذيرات المستمرة.
عامل التغير المناخي
التغير المناخي ظاهرة كونية وليست إقليمية أو وطنية، وبالطبع فإن انعكاساتها عابرة للحدود أيضاً. وبهذا المعنى لا توجد حلول فردية تمنع تأثير التغير المناخي على أي بلد لوحده، والخيار الوحيد المتاح على المستوى الوطني هو التكيف. وفكرة التكيف تتعارض مع استمرار المقاربات الوطنية التقليدية في القطاعات الاقتصادية كافة، ومنها قطاع الموارد المائية.
وفي بلد كالعراق واجه العديد من الكوارث في العقود الخمسة الأخيرة، لا يمكن تصنيف العوامل التي تؤدي إلى ارتفاع حرارة سطح الأرض، وتقلُّص الغطاء الأخضر، وجفاف الأهوار وانتشار الفقر، والنزوح من القرى والأرياف إلى حواشي المدن، على أساس أنها نابعة عن التأثيرات المناخية، التي يشترك بها مع محيطه الإقليمي والعالم أجمع؛ فمعظمها نتاج عوامل محلية تتعلق بالتعسف في إدارة الموارد المائية، والسيطرة الشاملة عليها والتحكم في جريانها.
صحيح أن العلاقة بين ما هو محلي أو إقليمي وما هو عالمي هي علاقة تفاعلية يؤثر من خلالها أحدها في الآخر، ولكن الانعكاس المحلي لمظاهر التغيرات في الطقس السائد، التي تفهم خطأً على أنها تغير مناخي، تكون أكثر شدةً عندما تكون السياسات والبرامج والمشاريع الوطنية مُتعارِضة مع مبادئ التكيف المعروفة.
فعلى سبيل المثال، تتعارض مشاريع السيطرة الشاملة على الموارد المائية لنهري دجلة والفرات من طريق السدود ومنشآت تحويل مجاري الأنهار، مع فكرة التكيّف مع التغيرات المناخية. فالسيطرة الشاملة على موارد النهرين المائية والتحكم بها تخضعها تماماً إلى “العامل البشري” في البلدان الأربعة. وأعمال تصميم وتنفيذ وتشغيل منشآت عملاقة مثل السدود يقوم بها موظفون في العراق وتركيا وسورية وإيران، وليس للمناخ من يمثله في هذه اللوحة الغامضة والمربكة من المصالح المتعارضة لدول الحوضين الأربعة، التي تقع جميعها ضحية اضطرابات المناخ وتجلياته المتطرفة، سواءً أكانت جفافاً غير مألوف أو فيضان مفاجئ.
ينطبق الشيء نفسه على جفاف الأهوار العراقية المدرجة منذ عام 2016 على لائحة التراث العالمي لليونسكو. فقد جُفِّفَت الأهوار، كما أشرنا سابقاً، بناءً على قرار سياسي في التسعينيات، وقُطعت مغذياتها النهرية بإجراءات هندسية ومنشآت أقيمت لهذا الغرض. وبعد عام 2003 تغيرت السياسة الحكومية في العراق من التجفيف إلى إنعاش الأهوار ونجحت نجاحاً نسبياً، لكنه ليس مستداماً، بسبب توسع سيطرة دول الجوار على المنابع ومجاري الأنهار. مع ذلك هناك من يدعي بأن تقلص المساحات المغمورة بالمياه أو جفافها هو بسبب التغير المناخي، وهذه مغالطة واضحة هدفها إلقاء اللوم بعيداً عن المسؤولية النابعة عن فشل الحوكمة في هذا القطاع المهم الذي يمس حياة الملايين من المواطنين. فجفاف مساحات الأهوار في أعوام 2021 إلى 2022 جرى بقرار تشغيلي قضى بتحويل الحصص المائية المخصصة لاستدامة الأهوار إلى استخدامات أخرى.
يمكن على سبيل المثال تلمُّس التأثير المحلي المباشر لتجفيف المساحات المغمورة بالمياه في الجنوب العراقي نتيجة للقرارات التشغيلية إياها، في الفرق في درجة الحرارة على اليابسة أو في مكان قريب في زورق وسط الأهوار. فالفرق المحسوس يكون بحدود ستة درجات مئوية في نفس اللحظة من اليوم نفسه. هذا الفرق الكبير ناتج عن فعل الأهوار، أو أي مساحات مغمورة بالمياه، باعتبارها سطحاً يمتص أشعة الشمس ولا يعكسها، أي يُسهم مباشرة في الإحساس بلطافة الجو في أجواء الصيف الحارقة في العراق. أما المساحة الجافة فإن قدرتها على عكس أشعة الشمس مباشرة عن سطح الأرض تقترب من 100%، وتسهم في رفع حرارة الجو قرب السطح مباشرة، ويكون الفرق في الحالتين 6 درجات مئوية على الأقل. هذا الإحساس المباشر بالفرق في حرارة الجو ليس نابعاً من التغير المناخي، بل من الإجراءات التشغيلية الخاطئة التي تُضاعِف من شدة تأثير التغير المناخي على المستوى المحلي. هذا التأثير سيكون على المديات الأبعد أكثر خطراً، لأنه تأثير تراكمي يشتد مع الإبتعاد عن سياسات التكيُّف المطلوبة.
ويخلق التغير المناخي شروطاً غير مألوفة وخطرة في منطقتنا ذات تأثير يهدد الحياة بصورتها المألوفة. وهو إن لم يكن بحد ذاته تهديداً مباشراً ومحسوساً، فإنَّه من دون شك يُضاعف حجم المخاطر المألوفة الأخرى، التي يتسبب بها الإنسان، ويزيد من تعقيداتها، وشدة تأثيرها. وبما أن العراق، وإلى جانبه إيران وسورية وتركيا المشتركة بمياه الرافدين، أعضاء في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغير المناخي (UNFCCC)، فإن مواصلة السياسات المائية السائدة منذ قرون يؤدي إلى فشل تحقيق أهداف التنمية المستدامة، والإخفاق في تحقيق تلك الأهداف يؤدي إلى المزيد من الفقر، والنزوح، وانعدام الأمن الغذائي والمائي، وانتهاك حقوق الإنسان، وخاصة الفئات الأكثر هشاشة في ظروف عدم الاستقرار.
ولا شك في أن انعقاد مؤتمر الأطراف في دورته السابعة والعشرين في شرم الشيخ، ودورته الثامنة والعشرين في دولة الإمارات، يقرّب هذه التظاهرة الكبرى من المنطقة، ويزيد الوعي بأهمية المقاربات الإقليمية المشتركة للتكيُّف مع التغيرات المناخية، والإبتعاد عن التضحية بالبيئة لصالح منافع مؤقتة توفرها السيطرة المطلقة على مجاري المياه الدولية العابرة للحدود.
استنتاجات
تتبع الدول الأربعة المشتركة بحوضي دجلة والفرات سياسات مائية متشابهة في الجوهر، على رغم المقاربات والدوافع المختلفة لكل منها. فهي تعتمد سياسات السيطرة على المياه من خلال إنشاء سدود تخزينية كبيرة، ومنشآت تحويلية. وهذه السياسة المائية كانت “مبررة” نسبياً في العراق الذي سبق جيرانه بعقود في بنائها، نظراً لأن مياه الرافدين والروافد جميعها كانت تجد طريقها إلى هذا البلد دون أي عوائق، وكانت تتسبب في أوقات الفيضان بأضرار مادية كبيرة في ظل محدودية الموارد المتاحة للدولة العراقية في معالجة آثار الفيضان وحماية المدن والأفراد والممتلكات.
لكن استمرار هذا النهج حتى الوقت الحاضر، وخاصة في دول الجوار، لم يعد مُبرراً، لأنه مضرّ وغير مُستدام. والعراق نموذج لحجم الضرر الذي أحدثته السدود، ونتج عنها الانحسار البطيء المتجه نحو الجفاف لأهم ظاهرة هيدرولوجية وإيكولوجية وثقافية ممثلةً بالأهوار العراقية في الجنوب. فضلاً عن التوسع المنفلت لظاهرة التصحر، وانكماش الغطاء الأخضر، وفقدان التنوع الأحيائي السائد عبر آلاف السنين، وتحطيم الشروط الساندة للحياة في المناطق الريفية.
ويحتاج العراق إلى عمل كبير لجعل القضية المائية أولوية سياسية واقتصادية ضرورية للاستقرار الاجتماعي. فعلى رغم حساسية الوضع المائي الناتج عن كون العراق دولة مصب، فإن الإهتمام الرسمي والشعبي بموضوع المياه لا يقفز إلى مقدمة الاهتمامات إلّا خلال مواسم الشح المائي، ويتراجع عند تحسُّن إيرادات البلاد من المياه. ومن ثمّ، فهناك حاجة ماسّة لتحويل هذا الموضوع إلى قضية وطنية ذات أولوية راسخة في المجتمع، وليس مجرد حالة عابرة؛ فالمشكلات المائية في العراق تظل تحديات واقعية ضاغطة لا يمكن تجنُّبها بالتمني، أو بالشكاوى من إجحاف دول الجوار، بل في ابتكار وسائل فعّالة تُخرِج العراق من حالة التلقي السلبي، إلى حالة الاستجابة الفاعلة للشروط الجديدة، وتقديم خدمات المياه للمجتمع بصورة أفضل.
وبالنظر إلى أن إدارة الموارد المائية هي إجراءات وعمليات مترابطة تتضمن التخطيط والتشغيل والصيانة والتسعير والتأهيل البيئي، وتشريع القوانين اللازمة لتنظيم القطاع المائي، وتحديد مسؤوليات المؤسسات الحكومية المعنية بإدارة المياه أو استخدامها، لتحسين حوكمة القطاع المائي أفقياً على مستوى المؤسسات المركزية، وعمودياً على مستوى علاقة المركز بالاقاليم والمحافظات ومستخدمي المياه؛ فإن ذلك يُوجِب على المعنيين جعل إصلاح القطاع المائي أحد أهم وسائل مكافحة الفقر. فالأخير يتركز في المناطق التي تشح فيها المياه، وخاصة في الأرياف والمناطق التي تكون فيها الزراعة النشاط الاقتصادي الوحيد للسكان، وإن ندرتها أو تلوثها، يشكل خطراً كبيراً على الصحة العامة، لأنه يتسبب في انتشار الأمراض وسوء التغذية والفاقة.
أيضاً، هنالك حاجة قصوى لمراجعة الطريقة التي يُدار بها الملف المائي الشائك، سواءً فيما يتعلق بانعدام التوافق الدولي مع دول الجوار المشتركة بدجلة والفرات وروافدهما، أو بتأثير التغيّرات المناخية، أو بضرورة فصل قطاع مياه الشرب عن القطاع الإروائي، لضمان تأمين مياه الشرب بنسبة 100%، بغض النظر عن طبيعة السنة المائية، سواء أكانت فيضانية، أو معتدلة، أو شحيحة. وأحد أبرز الحلول التي يمكن اعتمادها هو تحلية مياه البحر لتغطية الحاجات المنزلية، خصوصاً في مدن الجنوب العراقي.
لقد تغير الواقع السياسي في العراق، وسادت أجواء جديدة بعد عام 2003، أصبح معها للأقاليم والمحافظات سلطات ملتبسة تضمَّنها الدستور الجديد، مما يتطلب إصلاح منظومة القطاع المائي لتناسب الظروف المستجدة سياسياً ومناخياً ودستورياً، وخلق بيئة تشريعية وسياسية وتنظيمية صالحة لتقديم برامج الإصلاحات القطاعية المطلوبة، وتطوير آلية قادرة بقوة القانون على تنفيذ تلك الإصلاحات، والتكفُّل باتخاذ القرارات والإجراءات التي تؤَمِن انتقالاً سلساً من وضع قطاعي مشتت، وصلاحيات غير واضحة للعديد من مؤسسات الدولة، إلى قطاع متماسك ومتكامل وشفّاف يدعم الشركاء وأصحاب المصلحة كافة بصياغة القرارات، والاستفادة من نتائج تنفيذها لتحقيق تنمية مستدامة في القطاع المائي.
أضف ردا