يواجه العالم اليوم -بسبب كثرة الاحتياج، والتغيرات المناخية وظاهرة الاحتِباس الحراري وقلة الأمطار- أزمة ندرة مياه تكاد تكون الأقسى، والتي تنعكس سلبًا على واقع الحياة بكل مرافقها، والعراق الذي يعد خامس أكثر البلدان هشاشة تجاه التغيرات المناخية، والذي شهد في هذا العام قلة في نسبة هطول الأمطار، صار يواجه اليوم خطر جفاف نهري دجلة والفرات، الأمر الذي سيؤدي خلال السنوات القادمة إلى أن يصبح العراق -بلاد ما بين النهرين- بلاداً بلا رافدين، فشحة المياه بدأت تزداد رويداً رويداً كل عام، وهذا مما يثير الاستغراب نظرا لأن العراق هو أرض الرافدين حيث نهرا دجلة والفرات، ليس نهرا واحدا أو نهرا صغيرا، بل نهران مجراهما في العراق مجرى طويل، إضافة إلى وجود المياه الجوفية ومنابع المياه الأخرى، فكيف يعاني العراقيون من شحة المياه وقلة مصادرها؟ وهل حقا التغيرات المناخية تكمن وراء هذه الأزمة؟
نسعى في حماة دجلة الى خلق مساحة للحوار والتفاهم وتبادل الافكار من اجل تذليل العقبات بين الأطراف والخروج بنتائج وحلول واقعية من شأنها أن تحسن من الوضع البيئي الساري، لذلك وامتدادا لمؤتمر دجلة توك الذي أقيم في العام الماضي، أقمنا في 16 كانون الأول، في أكاديمية بغداد للعلوم الإنسانية، وضمن فعاليات الموسم السابع للمنتدى الاجتماعي العراقي/مسار البيئة والمياه، مؤتمر دجلة توك بموسمه الثاني، الذي ضم جلستين حواريتين تناولتا أهم المشاكل والعقبات التي يواجهها الواقع البيئي في العراق وكيفية تصحيح مسار الإدارة المائية من خلال طرح الحلول الأكاديمية الناتجة عن الدراسات والتجارب والأبحاث، حلول حقيقية تتماشى مع معاناة واحتياج المتضررين من أزمة المياه التي تمر بها البلاد.
من الجدير بالذكر أن مؤتمر دجلة توك هذا العام انطلق تحت شعار #الماي_قرار، الشعار الذي حملته آخر حملات حماة دجلة والتي تناولت مشكلة عدم الاهتمام الواضح من قبل صاحب القرار في العراق لظواهر الجفاف التي باتت معالمها واضحة في الفترة الاخيرة، وصدر على أثر هذه الحملة ورقة سياسات بعنوان “تأثير تغيرات المناخ على الوضع المائي في العراق”.
تأثير التغيرات المناخية على الوضع المائي في العراق
تضمنت الجلسة الأولى من جلسات المؤتمر وجود المتحدثين المهندس الزراعي والاستشاري علاء البدران، الأكاديمي والخبير البيئي د. ابراهيم السوداني، الناشط والباحث البيئي سيف خيري، وخبير التنوع الاحيائي ليث العبيدي، وابتدأت الجلسة بالحديث عن ورقة سياسات “تأثير تغيرات المناخ على الوضع المائي في العراق” الصادرة عن حملة الماي قرار، حيث استعرض السوداني أبرز أسباب الازمة المائية في العراق، المتمثلة بضعف الادارة المائية والخطط غير المستدامة للحكومة العراقية. كما تحدث السوداني عن الاسباب الاقليمية والعالمية التي تلعب دورًا في أزمة الجفاف التي يعاني منها العراق، كونه أحد البلدان المتأثرة بالتغيرات المناخية العالمية.
أما بدران فقد تحدث عن الواقع الزراعي في العراق والمشاكل التي يعاني منها هذا القطاع بسبب ازمة الجفاف، كما استعرض الحلول التي من الممكن أن تقلل من شدة الضرر ولكن أشار الى “أن العراق بعيدا جدًا عن استخدام هذه التقنيات الحديثة التي من شأنها أن تقلل استهلاك المياه”.
تلاه حديث لخيري، أشار فيه إلى أن قضية المياه تندرج ضمن حقوق الإنسان قائلًا “إن المادة الحادية عشر من الحقوق الاقتصادية والثقافية والاجتماعية تؤكد على أن المياه أحد الحقوق التي يجب أن تصل للمواطن بشكل مجاني”، واشار الى ان مايحدث اليوم هو خرق لحقوق الانسان، اذ ذكر سيف قصصًا مؤلمة لأفراد تأثروا بأزمة الجفاف وفقدوا على اثرها منازلهم وحيواناتهم واراضيهم ومصادر دخلهم، بل واحدهم قد اقدم على الانتحار وفقد حياته نتيجة شحة المياه.تحدث سيف ايضا عن مشكلة الهجرة من الريف إلى المدينة وما يترتب عليها من مشاكل وضغوط اقتصادية واجتماعية.
وعن أثر ندرة المياه على التنوع الاحيائي الموجود في الاهوار وعلى ضفاف الأنهار، قال العبيدي “ان الجفاف القاسي انهى فرص كثيرة للتنوع الاحيائي بالبقاء لاسيما ان العراق يمثل موقع استراحة لملايين الطيور المهاجرة ومئات الأنواع العابرة من القارات التي تجد ملاذها داخل الاراضي العراقية”، بين ليث ان دخول الاهوار ضمن لائحة التراث العالمي يرتبط بشكل أساسي بالتنوع الإحيائي الموجود في المنطقة، وجفاف الاهوار يهدد ديمومة هذه الأنواع و يعرضها للزوال وبالتالي إزالة الاهوار من لائحة التراث، ناهيك عن انهيار الجانب الاقتصادي المعتمد على الاهوار و فقدان سكان الاهوار لهويتهم و امنهم واستقرارهم. ويذكر عدم وجود خطوات حقيقية للحفاظ على التنوع الاحيائي وإنما مجرد دراسات وتقييم للمناطق بدون دعم حكومي جاد وهذا يسبب اجهاض للمشاريع قبل البدء بها.
وفي ختام الجلسة الأولى أشار د. ابراهيم إلى أن التغير المناخي بات يستخدم كشماعة للتغطية على مسببات الجفاف الحقيقية في العراق المتمثلة بضعف السياسات المائية قائلا “لابد من البدء بالتفكير باعتماد سياسات أكثر استدامة، كما نحتاج بشدة الى توعية المواطن العراقي بواقع العراق المائي وضرورة التوعية بأننا لا نحتاج المزيد من السدود والمشاريع الزائفة”
معالجات إدارة الموارد المائية
تمثل متحدثي هذه الجلسة برئيس جمعية حماة دجلة علي الكرخي، الباحثة والاكاديمية د. غفران ذياب، الخبير البيئي احمد صالح، والناشط البيئي بسام احمد. وابتدأها حديث صالح عن جفاف مساحات واسعة من الاهوار في السنوات الماضية، نتيجة لسوء إدارة الموارد المائية و قرارات الحكومة المركزية التي قد تكون مجحفة بحق بعض المحافظات وفي مصلحة محافظات أخرى، كما تحدث عن الصعوبة التي واجهها سكان الاهوار في ميسان عندما بدؤا باستقطاب السياح في بادئ الأمر بجهودهم الذاتية، وبيّن لماذا تستحق هذه المنطقة أن تكون وجهة سياحية للعالم أجمع، متحدثًا عن التنوع الاحيائي الفريد في المنطقة وما تتمتع به من جمال ومناظر خلابة، كما أشار للفوائد الاقتصادية للمنطقة، واختتم حديثه بأن هذه المميزات باتت مهددة بخطر الزوال ما لم تتحرك الجهات المختصة جديًا باتجاه انقاذ الاهوار وسكانها وتنوعها.
و في الحديث عن المشكلة الأكبر التي تواجه الادارة المائية في العراق، قال الكرخي “أن ملف المياه لا يقع ضمن الملفات الأكثر أهمية و أولوية ضمن جدول ترتيب الأولويات الوطنية، على الرغم من أن العديد من الملفات ترتبط بالأمن المائي بشكل أساسي مثل الأمن الغذائي والأمن الاجتماعي وملفات الهجرة والنزوح و السياحة والاقتصاد والزراعة”، وأشار إلى أن هذا الملف لا يتم ذكره في تصريحات السياسيين والجهات المختصة، ويعود السبب في هذا -كما يعتقد الكرخي- إلى أن وزارة الموارد المائية لا تملك السيادة و استقلال القرار.
هذا على مستوى صناعة القرار، أما من جانب آخر يشير علي الى أن الإدراك البيئي المحدود للمواطن او المستفيد و تعامله مع المياه بإسراف و استهلاك مفرط، يشكل جزءًا مهمًا من سوء الإدارة المائية، سواء كان السلوك فردي أو مؤسساتي من عدم ترشيد، إفراط بالاستخدام الزراعي، تجاوز على الانهار، او تلويث مياه الأنهار. ويبين الكرخي أن عدم الوعي هذا كان ولا يزال موجودا ولكنه أصبح ملحوظًا مؤخرا بسبب قلة إيرادات المياه التي أدت إلى زيادة تركيز الملوثات.
تحدثت ذياب عن الخطة الاستراتيجية لوزارة الموارد المائية لسنة 2015-2035 التي تمت بمشاركة قطاعات المياه والزراعة والنفط والصحة والبلديات، و هدفها الأساسي تحقيق الأمن المائي من خلال مسارين، الإصلاحات وتأهيل البنى التحتية واستخدام التقنيات الحديثة من جانب، والسعي للحصول على الحصص المائية العادلة ووضع اتفاقيات دائمة مع دول المنبع من جانب آخر، ولكن تشير غفران إلى أن التأخير في تنفيذ هذه الاستراتيجية يعود إلى عدم توفر الميزانية اللازمة.
وعن الوضع البيئي في الموصل، بين احمد أنه يكاد يكون مشابهًا لباقي محافظات العراق، إذ تحدث عن تجاوزات المستشفيات والمؤسسات الحكومية والاهلية على نهر دجلة، ومشكلة شبكات الصرف الصحي غير الفعالة، و عمليات التجريف التي تهدف إلى إعادة أعمار الموصل -ما بعد تنظيم داعش الإرهابي- وبناء المجمعات السكنية على حساب المناطق الزراعية. يقول بسام ” أن كل هذه المشاكل تضع الوضع البيئي في الموصل في تدهور مستمر و تطغى على جهود الفرق التطوعية التي تحاول الحفاظ على نهر دجلة وحماية الغابات والمدينة”.
وفي ختام الجلسة، تحدث علي الكرخي عن أن استمرار لامبالاة الحكومة المركزية بملف المياه وسوء الإدارة المائية، والموقف الضعيف للمفاوض العراقي، صارت ذريعة وحجة لحكومات دول المنبع للي ذراع الحكومة العراقية وتقليل الحصص المائية وتغيير مجاري الأنهار، ويقول “كان على دول المنبع -وأن لم تتوفر قوانين واتفاقيات مشتركة- أن تعامل العراق بمبادئ حسن الجوار وليس بالمفاوضات ومقايضة الماء بالنفط”. و أشار الكرخي إلى أهمية الوقوف بالضد من بناء المزيد من السدود لكي لا نكرر اخطائنا التي سندفع ثمنها مستقبلا كما ندفع اليوم ثمن أخطاء الماضي، أذ ليس من المنطقي أن نرفض السدود في دول المنبع وندفع باتجاه بناءها في أراضينا، مبينًا أن مستقبل الأمن المائي والغذائي يكون في استدامة الخطط الزراعية وتحسين الإدارة المائية والقضاء على التجاوزات واللجوء للحلول البديلة.
شهد المؤتمر مشاركة أكثر من 100 شخص بضمنهم نشطاء البيئة من حماة دجلة وأكاديميين و مختصين ومهتمين بالشأن البيئي وملف المياه من مختلف المحافظات، وممثلين عن الجهات الحكومية بالإضافة إلى حضور عدد من الصحفيين والقنوات الإعلامية.
من الجدير بالذكر أن مؤتمر دجلة توك الذي تم تنظيمه من قبل جمعية حماة نهر دجلة، كان ضمن فعاليات الموسم السابع للمنتدى الاجتماعي العراقي/مسار البيئة والمياه، و بالتعاون مع جمعية الأمل وبدعم من مساعدات الشعب النرويجي.
أضف ردا